من الكهف

.. خلق الله كل شيء في الدنيا محكوم بدورة حياة يولد صغيرا غضا رقيقا.. ثم يشب قويا فتيا جريئا مقداما .. وتأخذه السنين ليصبح اكثر حكمة واعمق فكرا ونضاجا .. ثم يصل في رحلته الي قمتها ، وبعد فترة من الزمن يبدأ المنحني في الهبوط .. فيضعف.. يقل .. يتأخر .. ينكمش ويتقلص حتي يرجع كما كان وقد اراد الله ان يصير هذا قانونا كونيا؛ كل حي يمر بتلك الرحلة يولد صغيرا ثم يشب ثم يشيخ ويموت وينطبق ذلك علي الانسان والحيوان والنبات والنجوم والاجرام السماوية ايضا. وقد شاء الله ان يسري هذا القانون علي الامم تولد الامة من فكره يؤمن بها صاحبها ويعمل من اجلها ويوطن نفسه علي التضحية من اجلها وبذل كل ما يستطيع ثم يبدأ ينشرها حوله ويقنع بها افراد جدد يحملوها معه فتقوي الفكرة.. وتكبر.. وتنضج.. ثم تزداد الفكرة عمقا بزيادة معتنقيها حتي تأتي اللحظة التي تفيض فيها هذا الفكرة علي الواقع وتفرض نفسها عليه وتتحول لكيان مادي قوي يطبق افكاره ومعتقداته التي يؤمن بها ودافع عنها بعمره وروحه. ثم تأتي علي هذه الأمة الوليدة فترات استقرار يستوي فيها ما يبذل فيها وما يؤخذ منها.. وبعد سنين من الاستقرار يأتي علي هذه الامة اجيال لا تعطي ولا تبذل بل تسحب فقط من الرصيد الذي بناه الاوائل بدمائهم وارواحهم .. ثم تبدأ الفكرة تضعف وتخبو اشعاعاتها، فحياة الفكرة او العقيدة تتوقف علي الاشخاص الذين يؤمنون بها وقد تطرأ علي تلك الفكرة الاولي التي قامت عليها الامة افكار ليست منها . فتختلط بها .. وتلوثها بل و تقاومها .. فتضعف الفكرة .. وتنزوي الامة اكثر وتشرع في الاحتضار .. وقد يطول احتضارها أو يعجل بنهايتها امة فتية تولد وتشب فتختصر فترة احتضار هذه الامة المريضة فتموت امة وتولد اخري وتستمر الحياة تحكمها الامة القوية دائما قوية في فكرتها في المؤمنين بها في كمية الدماء التي من شأنها ان تراق من اجلها لو ارادت ذلك وتموت الامم الضعيفة التي تنحط في احلامها واهدافها فتنتهي وتغدو ذكري من الماضي الذي يبعد بأستمرار.ه

.

وظل هذا القانون يسري علي كل الامم الا "أمة واحدة" شاء الله ان يختلف القانون الذي يحكمها فهي تقوي وتضعف ككل الامم ولكنها لاتموت ابدا.. أمة شاء الله ان تكون باقية ليوم الدين.. أمة شاء الله ان تظل امامها الفرصة دائما كي تعود من جديد فتية قوية.. أمة هي الشاهدة علي كل الامم هي "أمتنا" امة النبي الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم.. أمة حفظ الله دستورها وكتاباها مهما طالت الحياة.. أمة وعدها الله بالنصر والتأييد اذا اخذت بأساب هذا النصر اذا رجعت للفكرة الاولي ..للعقيدة النقية ..واذا رجعت تبذل وتضحي من اجلها.ه

.

وأمتنا اليوم تعاني كثيرا.. إنها اليوم في اضعف حالاتها ..هي لم تمت لانها لن تموت ولكنها ضعيفة مريضة .. تحمل داخلها امراض كثيرة .. وبهتت فكرتها في نفوس الناس .. وطرأت علي تلك الفكرة زيادات ليست منها بل تعمل ضدها ،وحذفت منها اشياء لن تكون هذه الفكرة فكرة قوية الا بها.. ويعمل حولها اعدائها دائبين علي اضعافها واساقطها فيغزوها بجيوشهم تارة او يتسللون الي عقيدة هذا الامة تارة اخري فيعبثوا بها او يلهوها عن كتابها والناس في غفلة عن هذا. وهناك من هذه الامة من يعمل لصالح اعدائها فيعاونهم ويكون اداة جيدة لهم لا تلكفهم شيئا يفعلون هذا اما عن قصد وفهم او جهل وعدم ادراك وهم لايعذرون في كلا الحالتين.ه

.

لكن رغم ذلك لن تموت هذه الامة.. لن تنتهي ابدا فلقد تغير قانون الموت والحياة من اجلها فهي لاتموت، قد حفظ الله كتابها ليوم الدين فستطيع ان ترجع له في اي لحظة اذا ما شاءت وستجد كل الوعود فيه لم تزل جارية لم يبطل مفعولها. ولكن كيف تعود كيف تنهض من جديد امة قوية؟.. كيف ان هدف هذه الامة ان تكون امة قوية يحكمها ملك عادل يحكم فيها بشرع الله؛ ينصر الضعيف ويوقف الظالم عند حده؟ وقد ذكر الله في القرأن الملك العادل القوي ذو القرنين .. الذي مكن الله له في الارض واتاه اسباب كل شيء فعمل بها.. ملك يحكم بشرع الله ملك يأخذ بالاسباب لو كان في زمننا هذا لغزا الفضاء وجاب المجرات وهبط لقاع المحيطات يكتشفها ويخرج خيراتها. ولكن كيف نصل لتك الصورة اذا اردنا؟

اذا كان الله قد ذكرها فمن المؤكد ان يكون ارشدنا علي السبيل اليها فاذا رجعنا الي سورة الكهف لوجدنها تتألف من اربع قصص كبيرة تتخللها بعض الامثلة والتعقيبات فهل نجد في هذه القصص الرابط الذي قد يقودنا الي السبيل ويجيب علي هذا السؤال الملح كيف تولد امتنا من جديد ؟؟؟؟كيف؟؟ه

.

تبدأ السورة بحمد الله الذي نزل القرأن ولم يجعل له عوجا، فهل تكون هذه اشارة الي دستور هذه الامة الذي لن يتغير والذي يحمل داخله فكرة هذا الامة وعقيدتها النقية الطاهرة؟ نعم! كي تعود هذه الامة من جديد يجب ان تعود للمصدر الاول.. يجب ان تغربل افكارها ومعتقداتها وتردها مرة اخري للنبع الصافي الذي تفجر علي يد النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. لو عدنا لسورة الكهف لاستقبلتنا اول قصة فيها: "قصة اصحاب الكهف والرقيم".. قصة تحكي عن فتية امنو بربهم ولم يقبلوا عقيدة قومهم التي يكن لها منطق او بينة

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

هؤلاء الفتية هم مثال لاولئك الذي يحملون بين جوانحهم الفكرة ويتحملوا في سبيلها اي تبعات .. يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون انهم سيعدلوا المسار الذي انحرف او انهم سيصبحوا مسارا اخر هؤلاء هم الفتية. هؤلاء هم البداية لاي امة تريد ان تنهض او تولد من جديد، وستكون هذه الخطوة هي دليلنا في رحلتنا لأن يسود العدل والامان في العالم، في ان يكون هناك ذلك الملك العادل، في ان ترجع امتنا قوية عزيزة كما كانت وكما يجب ان تكون. سيكون هؤلاء الفتية هم قدوتنا في هذه المرحلة فيجب ان نعود من جديد للمصدر الاول يجب ان نقيم افكارنا ومعتقداتنا هل تعمل لصالحنا ام هي في صالح اعدائنا.. نعم! هؤلاء هم الفتية الذين امنوا بربهم وزادهم الله هدي. والعجيب ان تري الايات في هذا المقطع من السورة تتحدث عن الفرد في بناءه لنفسه.. في تزكيتها وتنقيتها.. في علاج امراضه وعيوبه.. في ان يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. في الا يطع من اغفل الله قلبه عن ذكره، هل نحن هنا نتحدث عن اعداد الشخص الذي يحمل هذه الدعوة ويجهز لتحمل اعباءها وتبعياتها ؟!!!!! نعم!.. نحن الان لانزال في اهم فترة في مراحل بناء الامم هي الفكرة التي ولدت من داخل الكهف لقد كان الكهف هو الرحم الذي تخلقت فيه الفكرة وبرزت للوجود والسؤال الان ما هي الخطوة القادمة ؟؟ هل القصة الثانية في السورة قد تمثل المرحلة التالية؟؟ه

.

فاذا رجعنا للمصحف وجدنا هذه القصة تتحدث عن حوار بين رجلين احدهما مؤمن بالله ويحمل هم هذه الفكرة داخلة فلم يمنعه فقره من ان يحاور رجل غني جعل الله له جنتين. هذا الرجل لايؤمن بالله ولايؤمن الا بالماده.. بالشيء المحسوس، نري هذا الرجل الفقير وهو يتحاور مع هذا الرجل يقنعه بفكرته.. نعم! لقد خرجت الفكرة من الكهف وبدأت لتنمو وتكبر وتصل للناس ولكن بشكل خاص للغاية.. هو حوار مع افراد معدودين.. هي مرحلة حصر امراض هذا المجتمع والبدء في علاجها في هدوء وصبر. ويعمق النص القرأني قيمة الحوار مع الآخر حيث ان الناس لاتعلم ،فان علمت فامرها الي الله.. لكن لا نستسهل علي انفسنا الطريق ونهاجم الناس ونسبهم ونلعنهم والفكرة تكبر اكثر كلما زاد معتنقيها وتعمقت داخلهم وتشبعت بعقولهم وقلوبهم.. يتذكروها دائما في احلامهم.. في لهوهم.. في كل خطراتهم ومن شأن هذه الفكرة ان تكبر وأن تفرض نفسها علي الواقع وتبدأ الدعوة اليها لكل الناس فتبدأ الايات تتحدث عن الناس وعن افكارهم ومعتقداتهم وتبدأ في تفنيدها. تبدأ الايات في معالجة الامراض التي تصيب المجتمع تعالج داخلهم العقيدة التي اختلطت بها الشوائب والافكار الغريبة عنها الان لقد كبرت الفكرة وصارت قوية.. تخاطب الناس كلهم علانية بل تهاجم داخلهم افكارهم الباطلة وسلوكهم المعوج وهنا تأتي قصة موسى عليه السلام والخضر!!ه

.

وقصة موسى عليه السلام والخضر لها دلالتها وهي تأتي في هذا السياق قبل ان نصل للمرحلة الاخيرة.. المرحلة النهائية حيث تحكم هذه الفكرة وتسود وتكون لحظتها قد ولدت امة قوية ذات كيان ووجود. نعم! هذه هي المرحلة قبل الاخيرة فهل لهذه المرحلة قوانينها الخاصة؟.. هل ترشدنا هذه القصة وتحكي لنا اكثر عن تلك المرحلة؟؟.. ان القصة تحكي عن سيدنا موسي فقط ولم تذكر بني اسرائيل وهذه تعد المرة الوحيدة في القرآن، لقد ذهب موسى عليه السلام للخضر وقال له: "هل اتبعك علي ان تعلمني مما علمت رشدا"، وقد تكون هذه اشارة لفضل العلم ومكانته ولكن الذي حدث بعد ذلك لم يكن العلم بمعناه المباشر.. لم يتعلم موسى عليه السلام العلم أي العلوم بل حصل علي قيمة اخري هي: "الفهم" هي ان تعرف طبيعة الظروف والمرحلة قبل ان تعطي حكما او قرارا. لقد اعتبر موسي عليه السلام خرق السفينة واحتمال غرق اهلها امرا عظيما وهو بالفعل كذلك لولا ان هذه السفينة كانت لمساكين وكان يوجد ملك يغتصب منهم سفنهم السليمة، فكان القرار الصائب في هذه الظروف هو خرق السفينة.. كذلك قتل الغلام او بناء الجدار دون اخذ الاجر. لو نلاحظ ان كل تلك الاحداث تحدث في المجتمع الذي في مجمله قد لايؤمن بنفس الفكرة التي نؤمن بها ولكنهم دخلوا في حياة اولئك الناس.. دخلوا ووقفوا مع المساكين في وجه الملك الظالم.. اهتموا بشأن المجتمع ووحدة الاسرة وذهبوا لاهل القرية. ان المرحلة السابقة للتمكين هي مرحلة خاصة لها قوانينها والتعامل مع المجتمع في هذه الفترة الانتقالية يجب ان يحكمها الفهم؛ الفهم لطبيعة الناس.. الظروف.. اصدار القرار.. والحكم الذي يناسب هذه المرحلة. إلا أن الفكرة لم تعد فكرة شخص أو مجموعة افراد بل لقد تغلغلت في المجتمع بأسره، لقد صار هناك شعبا وصارت له عقيدة واضحة وغاية ماثلة امام، الان من شأن هذا المجتمع ان يحكم نفسه ومن شأن فكرته ان تحكم أن تسود وتصبح هناك امة قد ولدت من جديد.ه

.

ان هذا هو الطريق لان تعود امتنا من جديد وهو طريق طويل وشاق ويحتاج الي جهد وصبر ولقد خاضه الرسول صلي الله عليه وسلم بكل ثقة وثبات. كانت الفكرة والعقيدة داخله و يحمل همها ثم بدأ يدعو الناس سرا؛ يحاورهم..يقنعهم.. وبدأت تكون هناك جماعة صغيرة تؤمن بالفكرة وتضحي من اجلها.. ثم صارت الدعوة علنية للناس جميعا.. ثم اصبحت امة من اعظم الامم التي سادت العالم والتي ستعود مرة اخري لتسود. قد حان ذلك الموعد وسورة الكهف تعلمنا كيف نعيد امتنا من جديد، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة ( الكهف ) في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب / 736 ". لقد حضنا رسول الله ان نتلو هذه السورة العظيمة اسبوعيا فهي بمثابة الصيانة الدورية التي من شأنها ان تحافظ علي حيويه هذه الامة.. وضمانة لان تظل قوية. ليس ذلك فحسب بل ان في مقدور هذه السورة التي نقرأها اسبوعيا ان تلتقط امتنا من اي نقطة كانت فيها، لقد اراد الرسول ان يجعل هدفنا دائما هو ان تكون امتنا قوية.. سائدة.. تحمل معها قيم العدل والسلام والامن للعالم كله، وفي الايات الطريق والسبيل دائما.ه

.

ابدأ بنفسك وادعو غيرك وحتما ستأتي اللحظة التي تولد فيها امتنا من جديد لقد تحدثت سورة الكهف عن كيف تولد الامم من جديد وكان الكهف هو الرحم الذي تولد منه الافكار والأمم .ه