Thursday, November 5, 2009

ذكريات هاربة.. الجزء الثاني


كان صديقي قد قام تاركاً البراد الأسود علي النار ليجهز الدور الثاني من الشاي فكانت فرصة لي لأعيد التأمل مرة أخرى كانت هناك بركة قصب، تسمى كذلك عبارة عن مجموعة عيدان من القصب لأم واحدة فصارت عائلة كبيرة، أذكر أني كنت أنتخب عوداً كبيرا فأمسكه بنوع من الغشومية والاندفاع وانسي أمر ذلك الشوك الصغير الذي يغلف العود من كل الإتجاهات فيمليء كفي بشوك أبيض قصير للغاية ولكنه ليس كشوك التين الشوكي الذي لا يخرج ولا بالطبل البلدي
.
كنت اكسرالزعزوعة أعلى العود التي تكون أقل حلاوة وأغسل العود تحت الطلمبة وأبدأ في أشرس عملية تقشير ومص وتف أيضاً، إنها تلك الأكلة الوحيدة التي لا أشعر بأني آدمي وأنا أتناولها.. وللأسف لا استمتع بحلاوتها إلا بهذه الطريقة وكنت كلما نزلت في إتجاه الجذر حتي تزداد الحلاوة المسكرة، حتي أصل للعقلة التي تسبق الجذر والتي تتركز فيها كل حلاوة العود.. كنت احتفظ بالجذر بعد أن كنت أرميه حيث عرفت إنك لو زرعته مرة اخري سينمو عود آخر بل عائلة كاملة كبيرة...ه
.
في زواية الغيط كانت هناك شجرة توت وارفة تنطلق فروعها في كل الإتجاهات.. ففي شهر مايو تتزين هذه الشجرة وكل شجرات التوت بكرستالات من التوت الطارج الناضج الحلو.. توت أبيض كبير وآخر أحمر دامي وآخر أسود فاحم.. مهرجان من المسكرات الحلال، تجعلك تتوه من الحلاوة. كنت أبدأ أولاً وأنا أقف تحت شجرة التوت بالأغصان الدانية فالتقف التوت مباشرة دون غسل، فليس لدي هذا الترف الآن ولا استطيع الانتظار، من اليد إلى الفم مباشرة.. وعندما ينتهي المتاح من علي الأرض أو قد يكون استلمها أحد قبلي فقشطها، فأصعد في حذر علي جذع التوتة أو يكون هناك من حسن حظي بناء مرتفع أو شيء أقف عليه فاصطاد التوت في لذة عارمة
.
علي حافة الطريق أيضاً هناك غرفة صغيرة عالية الجدران من الطوب الأحمر ومسقوفة بالخشب يربض داخلها الموتور ذو الستة عشر حصاناً يجر بهم الماء من الرشاح في خرطوم طويل يخترق الطريق من أسفله حتي يصل إلى عمق الرشاح .. وأمام الغرفة بنيت فسقية مستطيلة علي حوائطها طبقة من الأسمنت الملساء تستقبل فيها الماء المندفع من ماسورة الموتور المخترقة الحائط فوق الفسقية مباشرة
.
لم تكن الفسقية كبيرة ولكني فيما مضي كنت أراها كبيرة حين كنت أجلس علي حافتها وأرمي بالسمك الصغير الذي اصطدته بسنارتي من الرشاح لأراقبه وهو يتحرك ويلعب وأرمي له بفتافيت العيش
تنتهي الفسقية بجدول طويل من الطوب الأحمر المطلي بالأسمنت من داخله كي لا يسرب الماء..ويمتد الجدول بطول الأرض يوزع الماء إلى كل أجزائها
.
هبت نسمة أخرى أحلى من التي سبقتها أعادتني مرة أخرى للواقع لاكتشف أن الشاي لم اتناول منه إلا رشفة واحدة وقد عاد صديقي حاملا بعض كيزان الذرة الأخضر إكراماً لي.. يقولون عليه ذرة لبن لم ينشف بعد، ولكي تتاكد أنه لا يزال لبن ويصلح لأن تشويه هو أن تضغط بأصبعك علي حبة منه فتجد أنه انفجرت بسأئل أبيض كاللبن
.
كاد صديقي يموت من الغيظ حين رأي الراكية أوشكت أن تخبو وأن الشاي تبخر معظمه، قد ظننت أنه أخد في حسبانه أمر الشاي وهو قد ظن أني سأتولاه بالرعاية.. قال كلمتين تشير لأن القعدة في القاهرة قد أفسدتني، وشرع يعيد ترتيب القوالح ووضع بعض الحطب الجاف ثم ركس علي ركبيته وبدأ ينفخ أنفاساً طويلة يخرجها من بطنه حتي ارتفع لسان من اللهب سرعان ما أمسكت في أعود الحطب فتجمعت ألسنة اللهب كلها مسلطة علي البراد الذي إزداد هباباً علي هبابه الأسود
.
صب لي كوبا آخر وقام يحضر الحطب كي يشوي عليه الذرة الأخضر الذي له طعم وليس الذي مع البائعين المتناثرين علي النواصي في القاهرة.. فهذا الذرة بأسمدة طبيعية ونسبة السماد الصناعي فيه قليل فكأنه أورجانك.. أما الذرة التي يشويها البائعين في القاهرة فلا يتغذي إلا علي هذه الأسمدة غير الطبيعية التي تجعله ينمو بشكل فجائي وفي معظم أوقات السنة ولكن بلا طعم تقريبا...ه
.
ارتشفت رشفة طويلة أتت علي نصف الكوب.. فوضعتها ونمت علي ظهري وشبكت يداي ووضعتهما تحت رأسي واغمضت عيني قليلا أحاول ان أصدق او أركز مشاعري وطاقاتي كلها لاستعيد تلك الذكريات فأجدلها مع هذا الواقع.. احاول أن اطمئن نفسي أن كل شيء كما كان.. لم أفقد شيئا.. لم أتوه من الزمن.. هنا كل شيء مثل ما كان.. احاول جاهداً أن اقنع نفسي...ه
.
فتحت عيني ونظرت لأعلى حتي طالعتني قمم النخيل الشاهقة الباسقة والتي يتدلي منها أسبطة البلح الملون تغطية من أعلي شمسية خضراء من الجريد الطويل.. كل ما في البلح مفيد، هذا الجريد الطويل يقوم الفلاح بقطعه مرة كل عامين فإما يبيعه للقفاص أو يتسخدمه في تسقيف عشة أو زرعة في الارض كحائط.. وهذا الليف الذي يكسو أسبطة البلح يجدل منه الفلاح حبل طويل يربط به بهائمة.. حتي سباطة البلح تستخدمها بعض النساء بعد نزع البلح منها في الكنس كمقشة.. وتستخدم للضرب والتأديب احياناً
.
جاء صديقي محملا بالحطب والقش.. ألقاه علي الارض ثم التقط كوزا من الذرة وبدأ يقشر الطبقات السمكية من عليه ثم يترك طبقة رقيقة عليه وأشار لي أن أفعل مثله.. وفعلت ولكن عندما انتهيت من أول كوز كان هو قد انتهي من الباقي! قام هو ففرش فرشه عريضة من القش والحطب ثم رص عليها كيزان الذرة ثم وضع من فوقه بقية الحطب.. وأمسك هو قليلا من القش والتقط بمهارة وخفة جمرة متقدة من راكية الشاي ووضعها في القش.. ثم جعل يطوح بذراعه حتي شبت النار في القش ثم دفنه داخل الكوم الكبير.. فما هي إلا لحظات حتي اشتعل الكوم ناراً كبيرة يراقص النسيم العليل ألسنة اللهب الحمراء
.
جلسنا نستعيد أيام زمان والذكريات التي أصبحت غالية لمجرد أن الزمن طواها ودفنها في أعماقه
تذكرنا السنين التي مرت والندوب التي تركتها في أنفسنا وأجسادنا
كانت الارض كما هي.. كان كل شيء كما هو.. لكن لم أكن أنا كما كنت
تغيرت؟؟؟
نعم!!.. تغيرت
من بوسعه أن ينكر ذلك.. أصعب ما في الحياة هو ثقل مرور الزمن في خلدنا.. وما يأخده منا في رحلته الأبدية
أكثر ما يؤلم الانسان هو ذكريات أيامه التي عاشها من قبل؛ أين ذهبت؟؟.. أين ولت؟؟.. هل قد انتهت بغير رجعه؟؟
هل لم يعد لها وجود إلا في ذاكرته الضعيفه التي تتسرب منها الذكريات في صمت مبكي
قد عاد مرة أخرى يبحث عن نفسه.. عن ذكريات له.. تركها متناثرة في أماكن عديدة ومع أشخاص كثيرين
هو لم يرضي بأن تكون حياته هي اللحظة التي يعيشها فقط
فحياته أيضاً هي السنين التي عاشها من قبل بكل ما فيها
هي أمه.. أبيه
طفولته.. مراهقته
فرحته البريئة.. بكاؤه الذي يقطع القلب
هي حياته أيضاَ
كيف تضيع منه وهي جزء منه

فنتركه في رحلته ونعود نحن للزمان الذي لن يمهلنا كي نستعيد الماضي فلا يزال عقرب الثواني يمشي مشيته الوئيدة
ويجر ورائه كل العقارب ويجر ورائه كل الحياة

3 comments:

واصطنعتك لنفسي said...

وما الذكريات يا بصمة الوجدان إلا مزيج من أجمل اللحظات التي تطير بها الروح وتحلق من السعادة واللحظات التي تثقل الروح وتؤلمنا، ولذا فهروب الذكريات هو ما يضمن لنا حياة مستقرة..

لعلها فقط ضريبة الهروب..
والذكي من أطلق سراح الذكريات المثقلة.. وحافظ على الذكريات التي نحيا بها طول العمر..

انعم بذكرياتك..
وامتعنا بها :))

abdo said...

السلام عليكم
ما شاء الله عليك عندك قدرة جميلة على السرد ونقل الصورة كاملة
بس إنت كنت ساكن فين
شكلك كده كنت جارنا فى الغيط
ميش تفصيله من اللى ذكرته كله إلا ورأيتها عندنا فى الغيط أيضا حتى بركة القصب وشجرة التوت التى تطل على حظيرة المواشى المبنية والتى كنا نصعد عليها دون عناء الصعود للشجرة

Unknown said...

أحاول ان أصدق او أركز مشاعري وطاقاتي كلها لاستعيد تلك الذكريات فأجدلها مع هذا الواقع.. احاول أن اطمئن نفسي أن كل شيء كما كان.. لم أفقد شيئا.. لم أتوه من الزمن.. هنا كل شيء مثل ما كان.. احاول جاهداً أن اقنع نفسي...ه
.

ربنا يبارك فى عمرك يارب