كان صديقي في بلدتي الصغيرة يجلس تحت شجرة الجازورين الضخمة التي تنشر تحتها وفي مساحة كبيرة حولها ظلاً بارداً. كانت أمامه عدة الشاي؛ برادٌ أسود اللون مهبباً، وكوبان صغيران لهما يد تمسك منها علي شكل الأذن فيقال عليها كوب بودن، كانت الراكية علي شكل هرمي من القوالح المتقدة التي تتوراي فيها السنة اللهب هاربة من النسائم الطبية التي تهب من جهة البحر
.
سلمت عليه وجلست علي الأرض بجواره فأسرع هو ومد لي مخدة محشوة بالليف فجلست عليها وهو يقول بحب بادٍ في ملامحه: إزيك يا أستاذ.. إزاي الصحة.. ينفع كده
.
لم يكن يناديني إلا بالأستاذ تكريماً لي، كان الشاي قد أوشك علي الفوران فمد يديه وأمسك البراد من يديه ورجه بشكل دائري ووضعه ثانياً علي النار وترقبه حتي عاد يفور في عنف، فأبعده وشرع يصبه في براداً آخر أقل منه حجماً وأقل سواداً وضع فيه حفنة من السكر، رفع يديه عالياً فاندفع خيط الشاي من فتحته البراد الأسود في مسافة طويلة حتي يهبط مختلطاً بالسكر في البراد الآخر مكوناً رغوة شديدة
.
رج البراد الآخر جيداً كي يتأكد من ذوبان السكر تماماً ثم صب قليلاً من الشاي في إحدى الكوبين ونفخ فيها قليلاً ثم تذوقها وهو يغلق عينيه اليسرى كأنه يركز قليلاً، وما إن ارتضى سكره حتي رفع يديه مرة أخرى عالياً بطول ذراعه وأمال يديه حتي نزل الخيط الأسود المحمر يملأ الكوب الصغير تغطيه طبقة عالية من الرغوة الهشة
.
أمسكت بالكوب الساخن احتضنه بيدي وشرعت أتأمل ما حولي في استمتاع طفولي.. كان هناك صفاً طويلاً من شجر الجازورين يحيط بالارض من كل جانبيها المطلين علي الطريق.. وكانت الارض منصوب فيها شجر اليوسفي الأخضر وتتدلي منه ثمار اليوسفي التي لم تنضج بعد تجعله أشبه بثمر الليمون الأخضر
.
كانت المسافات البينية بين الشجر صغيرة.. وقد تكون الأغصان قد تمددت حتي سدت الطريق ولكن هناك حتماً طريق ما صنع مع مرور الوقت للعبور بين الشجيرات الكبيرة
.
في الأرض كان الحشيش الصغير نامياً وكان هناك ايضاً نوع من الحشائش يطلقون عليه اسم "السِعد" مهما فعل الفلاح مع الأفاعيل وبذل كل مجهود لديه في عزيقه أو رشة بالمبيدات فإن له قدرة غريبة علي الحياة مرة أخرى مهما قلعته من جذوره أو قضيت عليه.. حتماً سيعود مرة أخرى مخرجاً لسانه للفلاح
.
كانت الأرض مرويه منذ أربعة أيام علي الأقل حيث أنها لاتزال لينة طرية.. ولكن لم يعلق بحذائي الرياضي أي من طينها. كنا نجلس تحت الجازورينة الكبيرة قرب الطريق الذي لا يتعدي ثلاثة أمتار يعلوه طبقة كثيفة من الرمال كانت تعاكس إطارات عجلتي في الماضي.. كانت تنغرز فيها فأصاب بكمية احباط شديدة فاترجل عن عجلتي وأسحبها في صبر تحت أشعة الشمس المركزة وأحاول أن احفظ توازنها لو كنت احمل علي كرسيها الخلفي شنطة ما أو بعض الخيرات من الأرض
.
بعد ساتر الرمل هذا تجد الرشاح الرفيع الطويل المتلوي كأنه أفعى ناعسة في كسل شديد.. الرشاح هو أشبة بالترعة ولكن علي حجم أصغر ومهمته أن يكون المنفذ التي ترشح فيه كل الاراضي بعد ريها بالماء العذب فيأخد في طريقة كل الاملاح في التربة إلى الرشاح، ومع إن الرشاح هو المصرف للأملاح المضرة للتربة إلا أن بعض الفلاحين يضعون عليه مواتير وميكنات ترفع منه الماء لتروي به الأرض مرة أخرى
.
وتنمو علي الرشاح شجيرات صغيرة وأعواد من البوص الطويلة والتي تجعل أجزاء كبيرة منه غير مرئية فتأتي الكراكة العملاقة التي هي عبارة عن آلة ضخمة تسير علي جنازير ولها ذراع طويل ينتهي بمغرفة مقلوبة لها أسنان حادة لتنظم الرشاح باستمرار كل عام أو عامين.. فتزيل كل الشجيرات والبوص وتعمق الرشاح بأن تأخد من جوفة رمال تضعها علي الطريق فتصبح السير عليه عسير بعجلتي المسكينة
.
كان العامل علي الكراكة يتعمد أن يزيل كل ما في طريقة حتي خراطيم المواتير التي تسحب بها الماء من الرشاح حتي يسرع صاحبها ليناوله خمسة جنيهات فيعديها له.. وقد يترك له كرامة بعض شجر الزنزلخت الذي نما وترعرع علي حافة الرشاح والتي يبيع الفلاح خشبها مع شجر الجازورين كل بضعة أعوم
.
ولكني أذكر أن في البلدة المجاورة لنا قام العامل بإزالة جسر بدائي أقامه الناس لعبور الرشاح غالباً عبارة عن فلقتين من النخل مضمومين وعليهما طبقة من الرمال فأصبحت كطريق ضيق يمر عليه الناس وتعبر عليه الحمير ايضاً.. قد فعل العامل ذلك أملاً في إكرامية ما، ولكن أهل البلدة اجتمعوا علي هيئة رجل واحد قوي لها كلمة نافذة ولقنوه درساً قد لا يستطيع نسيانه بسهوله.. أذكر أنهم ضربوه ضرباً مبرحاً حرم بعدها أن يمس أي شيءٍ مهما كان علي طول الرشاح ودون أي مقابل
.
لون المياة في الرشاح أخضر تمنو عليه الطفيليات والريم الأخضر في أجزاء منه، تستطيع ببعض التركيز أن ترى السمك الصغير يلهو في مرح في ذلك الماء الضحل الآسن
.
هبت نسمة قوية داعبت وجهي فانتبهت لنفسي فقربت الكوب من فمي وشربت منه شفطة طويلة أمتص فيها الشاي الغيطي الذي يختزن في كل قطرة منه ذكريات عمر كان
.
سلمت عليه وجلست علي الأرض بجواره فأسرع هو ومد لي مخدة محشوة بالليف فجلست عليها وهو يقول بحب بادٍ في ملامحه: إزيك يا أستاذ.. إزاي الصحة.. ينفع كده
.
لم يكن يناديني إلا بالأستاذ تكريماً لي، كان الشاي قد أوشك علي الفوران فمد يديه وأمسك البراد من يديه ورجه بشكل دائري ووضعه ثانياً علي النار وترقبه حتي عاد يفور في عنف، فأبعده وشرع يصبه في براداً آخر أقل منه حجماً وأقل سواداً وضع فيه حفنة من السكر، رفع يديه عالياً فاندفع خيط الشاي من فتحته البراد الأسود في مسافة طويلة حتي يهبط مختلطاً بالسكر في البراد الآخر مكوناً رغوة شديدة
.
رج البراد الآخر جيداً كي يتأكد من ذوبان السكر تماماً ثم صب قليلاً من الشاي في إحدى الكوبين ونفخ فيها قليلاً ثم تذوقها وهو يغلق عينيه اليسرى كأنه يركز قليلاً، وما إن ارتضى سكره حتي رفع يديه مرة أخرى عالياً بطول ذراعه وأمال يديه حتي نزل الخيط الأسود المحمر يملأ الكوب الصغير تغطيه طبقة عالية من الرغوة الهشة
.
أمسكت بالكوب الساخن احتضنه بيدي وشرعت أتأمل ما حولي في استمتاع طفولي.. كان هناك صفاً طويلاً من شجر الجازورين يحيط بالارض من كل جانبيها المطلين علي الطريق.. وكانت الارض منصوب فيها شجر اليوسفي الأخضر وتتدلي منه ثمار اليوسفي التي لم تنضج بعد تجعله أشبه بثمر الليمون الأخضر
.
كانت المسافات البينية بين الشجر صغيرة.. وقد تكون الأغصان قد تمددت حتي سدت الطريق ولكن هناك حتماً طريق ما صنع مع مرور الوقت للعبور بين الشجيرات الكبيرة
.
في الأرض كان الحشيش الصغير نامياً وكان هناك ايضاً نوع من الحشائش يطلقون عليه اسم "السِعد" مهما فعل الفلاح مع الأفاعيل وبذل كل مجهود لديه في عزيقه أو رشة بالمبيدات فإن له قدرة غريبة علي الحياة مرة أخرى مهما قلعته من جذوره أو قضيت عليه.. حتماً سيعود مرة أخرى مخرجاً لسانه للفلاح
.
كانت الأرض مرويه منذ أربعة أيام علي الأقل حيث أنها لاتزال لينة طرية.. ولكن لم يعلق بحذائي الرياضي أي من طينها. كنا نجلس تحت الجازورينة الكبيرة قرب الطريق الذي لا يتعدي ثلاثة أمتار يعلوه طبقة كثيفة من الرمال كانت تعاكس إطارات عجلتي في الماضي.. كانت تنغرز فيها فأصاب بكمية احباط شديدة فاترجل عن عجلتي وأسحبها في صبر تحت أشعة الشمس المركزة وأحاول أن احفظ توازنها لو كنت احمل علي كرسيها الخلفي شنطة ما أو بعض الخيرات من الأرض
.
بعد ساتر الرمل هذا تجد الرشاح الرفيع الطويل المتلوي كأنه أفعى ناعسة في كسل شديد.. الرشاح هو أشبة بالترعة ولكن علي حجم أصغر ومهمته أن يكون المنفذ التي ترشح فيه كل الاراضي بعد ريها بالماء العذب فيأخد في طريقة كل الاملاح في التربة إلى الرشاح، ومع إن الرشاح هو المصرف للأملاح المضرة للتربة إلا أن بعض الفلاحين يضعون عليه مواتير وميكنات ترفع منه الماء لتروي به الأرض مرة أخرى
.
وتنمو علي الرشاح شجيرات صغيرة وأعواد من البوص الطويلة والتي تجعل أجزاء كبيرة منه غير مرئية فتأتي الكراكة العملاقة التي هي عبارة عن آلة ضخمة تسير علي جنازير ولها ذراع طويل ينتهي بمغرفة مقلوبة لها أسنان حادة لتنظم الرشاح باستمرار كل عام أو عامين.. فتزيل كل الشجيرات والبوص وتعمق الرشاح بأن تأخد من جوفة رمال تضعها علي الطريق فتصبح السير عليه عسير بعجلتي المسكينة
.
كان العامل علي الكراكة يتعمد أن يزيل كل ما في طريقة حتي خراطيم المواتير التي تسحب بها الماء من الرشاح حتي يسرع صاحبها ليناوله خمسة جنيهات فيعديها له.. وقد يترك له كرامة بعض شجر الزنزلخت الذي نما وترعرع علي حافة الرشاح والتي يبيع الفلاح خشبها مع شجر الجازورين كل بضعة أعوم
.
ولكني أذكر أن في البلدة المجاورة لنا قام العامل بإزالة جسر بدائي أقامه الناس لعبور الرشاح غالباً عبارة عن فلقتين من النخل مضمومين وعليهما طبقة من الرمال فأصبحت كطريق ضيق يمر عليه الناس وتعبر عليه الحمير ايضاً.. قد فعل العامل ذلك أملاً في إكرامية ما، ولكن أهل البلدة اجتمعوا علي هيئة رجل واحد قوي لها كلمة نافذة ولقنوه درساً قد لا يستطيع نسيانه بسهوله.. أذكر أنهم ضربوه ضرباً مبرحاً حرم بعدها أن يمس أي شيءٍ مهما كان علي طول الرشاح ودون أي مقابل
.
لون المياة في الرشاح أخضر تمنو عليه الطفيليات والريم الأخضر في أجزاء منه، تستطيع ببعض التركيز أن ترى السمك الصغير يلهو في مرح في ذلك الماء الضحل الآسن
.
هبت نسمة قوية داعبت وجهي فانتبهت لنفسي فقربت الكوب من فمي وشربت منه شفطة طويلة أمتص فيها الشاي الغيطي الذي يختزن في كل قطرة منه ذكريات عمر كان
.........
يتبع